دفعتني وفاة الشيخ عبد الله الأحمر- تغمده الله تعالى بالرحمة - إلى قراءات في بعض المحطات في حياة الرجل. وكنت أعرف أن الشيخ عبد الله لن يعدم من يذكر محاسنه وفضائله والتذكير بعظيم المصاب به ويتناسى كل شيء آخر، فآثرت أن أترك كل ذلك وأكتفي أنا بتناول محطة محورية جدا وهامة مر بها الراحل سياسيا، وينقضي عليها - بإنقضاء عام 2007- ثلاثون عاما، ولاحظت أنها لم تكد تُطرق أو يسلط عليها ما تستحق من أضواء: إنها ذكرى اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في عام 1977.
محاولا الإطلاع على مواد تخص هذه الذكرى، قادني بحثي إلى موقع http://www.alhamdi.net وهو موقع متعلق تعلقا كاملا بالرئيس الشهيد. وعلى الرغم من أن صفحات كثيرة من الموقع لا تزال قيد الإنشاء، إلا أن المتوافر منها - حتى الآن - يحتوى على مواد ذات أهمية كبرى. تنقلت مستكشفا بين صفحات الموقع، أذهلتني صور زنكوغرافية لوثائق أصلية أظهرت عظمة الرئيس الشهيد، منها صور لسندات استلام من البنك المركزي وأخرى بخط على بن علي الهادي أمين خزينة القوات المسلحة، وجميعها توثق لإستلام مبالغ بالملايين كانت تعطى للرئيس الشهيد كهدايا نقدية – بحسب نص الاستلامات – ويقوم هو بتحويلها لخزينة الدولة أو لصالح المؤسسة العسكرية!
زرت معرض الصور، ورأيت كم كان يبدو مستقبل اليمن مشرقا حينذاك. لكن الذي هزني بقوة، كانت صورة زنكوغرافية لخاطرة نثرية - كتبها الرئيس الشهيد بخطه – تقول:
"بصفاء السماء،
وبسمة الشروق،
ورحابة البحر،
وهدوء الجبال،
وصدر الأودية الفساح،
هكذا أحب وطني، وأحب فيه كل مواطن.
وكل مواطن هو أخي وحبيبي.
سعادتي أن أراه حرا سعيدا،
إنسانا منتجا قادرا وليس عالة على أحد
ولا يطلب الاستجداء من أحد.
يجب أن نعتمد على أنفسنا
ونبحث عن كوامن القدرة في أعماقنا
وسنجدها لأننا شعب كريم عظيم"
يا الله!
لا أنكر أنني بالكاد غالبت مشاعري التي هزتها كلماته، وأنا أدرك – للمرة الأولى ربما -
كم كان الرجل عاشقا لليمن، متيم بحب شعبه – حبا منهكا حتى الثمالة.
وفكرت..ماذا عساه كان يقول لو رأى حالنا اليوم، ونحن أقل شعوب العرب شأنا وأكثرها فقرا وعوزا وأضعفها حالا؟
ماذا عساه كان يقول وهو الذي أراد أن يفاخر بنا النجوم؟
لا أدري!
كل ما أدريه أن اليمن أكله كعادته دوما في أكل أبنائه البارين قبله- رحمه الله - وبعده
ثم يبقي، بعده وبعدهم، يعض عليهم الأنامل حسرة.
وددت لو أعرف ما دار بخلده وهو يرى فوهات الغدر مصوبة إليه،
ما الذي جال بخاطره وهو يرى غُلفُ القلوب - الذين كانوا أصغر من أن يعقلوا عنه شيئا – وهم يهرعون لإخماد أنفاسه ، وهو يهتف بهم: "خذوا السلطة..وأكملوا ما بدأناه، الشعب أمانة في أعناقكم"
لا أدري ما كانوا يفكرون ويفكر لحظتها.
لكن ذلك لم يعد مهم ..فهو الأمس الذي لا يعود.
اليوم، بعدها بثلاثين عاما، هاقد رحل الكثير ممن تكالبوا عليه، (غفر الله للمسلمين)
ومن بقي منهم..يسيرون إلى نفس المنتهى.
يغيبهم الموت..
يضمحلون هم..
تتناساهم الناس..
ويبقى الحمدي - دفء في القلب - أكبر منهم
وتمتد حياته أطول من حياة قاتليه
ثلاثون عاما..
واليمن بعده يتيما..
يتلهف رجلا فيه من الحمدي شيئا..
شيئا واحدا فقط ..
ولا أحد!
لا يستطيع المرء أن يعرف لماذا؟
فأنا وأقاربي ورفاقي وزملاء دراستي وجيراني وأبناء مدينتي و- حتى - الأغراب الذين أقابلهم، جميعنا يحب الحمدي!
ومن الذي لا يحب الرئيس الشهيد؟
هي ظاهرة إجماع قل أن تجد لها مثيلا في التاريخ!
لماذا؟..لا تسأل
فلن تجد إجابة واحدة..
فلكل أحد سبب وأسباب
إلا أن ما يجمعنا هو أننا نحب فيه الأمل الذي صنعه
الكرامة التي خلقها في يمنيتنا
الحياة التي جعلها - ولو لفترة وجيزة – تستحق العيش
نحبه بقدر ما أحب الوطن..
وبقدر ما أحبنا.
وأعود فأسال نفسي، في ظل هذا الواقع المضطرب،
ألا يجود علينا القدر برجل مثله؟
فرصة أخرى وحيدة..
مرة أخرى..
مرة واحدة فقط..
فاليمن فعلا في أشد ما تكون الحاجة إلى رجل مثله
واليمنيون في أشد الحاجة إلى رجل ينفخ فيهم الأمل الذي حطمته فيهم السنون العجاف!
نريد رجلا يغسل عنا أدران خذلاننا وكل هذا العار
رجلا ينتشلنا من اليأس وخدر الموات الذين نعيشهما
رجلا يوقظنا من هذا الكابوس
وينفث عنا - كما تُنفث الشياطين- الطغاة والمتنفذين والمفسدين،
وكل من ولغ في دماءنا وكرامتنا وإنسانيتنا وحقوقنا
ولم يرع فينا إلاً ولا ذمة..
نريد رجلا يثبت لنا وللعالم أننا – رغم كل شيء - لسنا بذلك السوء
وأننا نستحق أن نحيا بكرامة
وأن نمتلك شيئا نفاخر به؛
نريد رجلا يسقط الرتب التي تضخمت نياشينها وسمنت رقابها،
رجلا يلقي - إلى زوايا التاريخ البعيدة المظلمة - بدولة المشيخيات المناطقية التافهة
– ومعها سجونها الخاصة ومصالحها التي سرقت منا كل شيء، وجعلت منا علكة تمضغها الأفواه الرخيصة
نريد رجلا يبني بعدها دولة حق وقانون وعدل وإنصاف
نريد رجلا يوقف توزيع العطايا والهبات والسيارات وأراضي الناس على كل متزلف ونافذ وظالم
نريد رجلا ينفخ الحياة التي تجمدت في جبال اليمن وسهوله ووديانه وأزقة مدنه وشوارعه ووجوه قاطنيه
نريد رجلا يفعل فعله ..
نريد عمرو بن عبد العزيز اليمن
حمديا آخر..أسطورة يمنية أخرى..
ولو لعام واحد..لشهر واحد..ليوم واحد؛
فإن عقم اليمن عن مثله، فلا خير في شمسه ولا في هوائه!
العمانيون استقبلوا قابوس في السعودية بالمكانس يهتفون "يا عُماني يا عُماني..خلي المكنس لليماني"...
نبوءة وقحة...
لكنها تحققت!
تخطت دول الجوار رقابنا: لحقت بنا..ثم سبقتنا
وبقينا نحن خلفها نجر مخازي واقع فج مؤلم قبيح لا يريد أن يغادرنا!!
قلبت عيني في صور الرئيس الشهيد..
اقسم أنني أحسست بالفخر أنني يمني مثله،
حضوره الطاغي الذي يتخطى كل نواميس الفوتوغرافيا..
وجهه الطيب المشرق
عفويته وبساطته
تألقه في ملابسه المتواضعة
باختصار: كل شيء فيه .
أردت أن أطبع كل تلك الصور
وأن أخرج بها إلى الناس في هذه الأرض الغريبة..
أستوقفهم ..
أحدث عنه كل من ألقى،
أخبرهم عن رجل أحب اليمن بكل ما فيه
وأحبه اليمن بكل شيء فيه.
أعجب ما في هذا الرجل أن الناس تولد وتموت وهي تحبه!
ينسون أبائهم وأحبابهم، ولا ينسوه.
حادثت شابا يافعا في السابعة عشر من عمره عن الرئيس الشهيد، فقال لي:
"لو عاش لرأيت اليمن واليمنيين على غير هذه الحال، وأنا أحبه لأني أعرف أنني كنت سأكون يمنيا مختلفا لو أنه عاش"،
وسألت رجلا في العقد السادس من عمره، فقال لي بعد تنهيدة طويلة، وكأنني فتقت فيه جرح لم يندمل:
"يا ولدي ..كان كل شيء جميل في أيام الحمدي..حتى الشمس والهواء..ولو خلوه كان ما إحنا مغتربين ومبهدلين.."
أنموذجان لجيلين يختلفان في كل شيء تقريبا ويتفقان في الحمدي ..
لهذا أصدقهما فيه..
وأعرف أن هذا الحب الخالد في القلوب لا بد أن يكون له منزع قوي
يبقى أن نقول: إن الرئيس الشهيد..حارب دون رحمة العقبات الكبيرة أمام تطور اليمن،
وحاربته - بدورها - دون رحمه أيضا..
أرادها عزة لهذا الشعب، وأردواها مصالح ضيقة برؤى لم تذهب أبعد من أنوفهم