.
مكنسة من سعف نخل ، وفردة حذاء مدغمة بيمين مواطن طاعنة في اليأس .. أقسم
لك بالله ، أنه لا مستقبل للتعليم في اليمن في ظل فقر كافر .. يسحق أرواح
الناس .. وغياب دولة لا تملك سوى الرقص على أمجاد ماضي هنا، وشغوفة بذبح
أحلامهم في البقاء على قاعدة المواطنة المتساوية.
محمد سيف الشميري من أبناء قرية " السبعه العليا " مديرية حيس بمحافظة الحديدة ، قال انه خرج منذ عام
1990م
من السعودية حيث كان مغتربا حينها، لكنه اليوم يشعر بكل مرارات الاغتراب
في وطنه ، وأن لديه ستة أطفال جميعهم أميون لسببين، لأنه فقير، ولأن
التعليم " لم يعد مثل زمان، والذين يتخرجون من المدارس أميون كذلك، أنا
أمي وأمهم كذلك نعيش دلهفة بانتظار أن نموت أو يرحل هؤلاء" .. الشميري
وغيره من القرويين البسطاء مسكونون بأوجاع كثيرة، فمن يحصي مذلات هؤلاء ؟.
ويمضي
ـ الشميري ـ في حديث طويل عن متاعبه وشقاوته وفقره التي حصدها في بلاده
ليقول لي بعدها، وهو قابضا على صدره بيده، والمكنسة على عاتقه الأيسر،
ليقترب إلى أذني، وبحشرجة طافحة باحمرار في العين ـ يا أبني ـ آآآح لقد
كانت الغربة وطن!.
تعليم فقير ومياه ضحلة يصدمك مشهد الحمير الناقلة للماء، ويطعنك في خاصرتك فتية في أزاهير أعمارهم يقولون بأسى ذابح ممزوج بابتسامة بريئة أننا أميون .. مواطنون تقصف أرواحهم الأوبئة والأمراض والأمية كذلك التي لا يعرف متاعبها سوى أجدادهم منذ 40 عام ونيف .. مدينة وآرفة بالآثار والنقوش والعمارة الفائقة الجمال.
في
حيس تتذوق فنون صناعة الفخار الحيسي، وتجيد الفتيات شياكة أزهار" الزنط "
بصورة حاذقة بالإبهار وصناعة الدهشة معا.. لكن الفقر والمرض والجهل يذبح
هذه الذائقة، ويهدد مستقبل جيل يبحث في الصخور الصماء وأدخنة مواقد
الحجارة بحثا عن مادة " النورة " يفتشون عنها لسد رمق أسرهم من الجوع،
يقول على عبد الله، الناس هنا " تآبا " قالها بلهجة
تهامية تقطرألما، أي أنهم متعبون .. يذهبون إلى مشارف هذه القرى في
"السبعة العليا" وغيرها من القرى ليوقدون جهنم في أفران من هذا الحطب و
الاسلاخ الخشبية الكبيرة يوقدونها لعشر ساعات حتى تبيض هذه الصخور السوداء
ويبيعونها كنورة، حتى الأطفال يشترك في إيقاد هذه النار لإخماد الصخور ..
أولادي كلهم أميون أكبرهم 20 سنة ليش ؟ لا تسألني ليش ؟ تعال شوف هذه
مدرسة من قش المدرس يدخل ربع ساعة ويخرج، تعال لترى من يدرسون الواحد في
الإعدادي ولا يعرف يقرأ هذه مدارس! هذه عشش طاردة للتعليم! وتشوف هناك مقر
نادي صرفت فيه ملايين أيهما أفضل مدرسة وإلا نادي؟! وفي هذه القرية نحتاج
إلى مشروع ماء ومدرسة وعيادة وليس مقر للنادي صح؟ أجبني؟ هززت له رأسي
متفهما قدرا كبيرا من عناء كالجبال يحملها هؤلاء القرويون في صدورهم
العارية، يفكرون في مستقبل أطفالهم وفي قوتهم كذلك،
أنا أمي تفهم ؟ لا تسألني ليش؟ الناس دفعوا بأطفالهم ليساهموا في دخل
أسرهم الفقيرة يبيعون في الأسواق ويتهربون إلى جحيم السعودية وأسواق عواصم
المحافظات في سبيل البحث عن المعيشة نناضل من أجل قيمة كيس الدقيق، لقد
أذلنا هذا الكيس اللعين بعدما رفعوا سعره الواحد يشقى ولا يلقى، تصدق لو قلت لك إننا
نشرب ماء ضحلة، أنت ترفض الآن تشرب منها لماذا ؟ نحن لسنا بشر مثلك؟ والله
عيب لنمت سويا، لماذا ما نشوف مسؤول فقير مثلنا ؟ وإلا نحن من فصيلة
القرود ؟" لقد افرغ الرجل ما في قلبه من غضب في وجهي .. شعرت بالخجل
ومرارات الحرمان والقهر تتكور في حلقي أيضا أنا الآخر .. دلقت بعضا من كأس
الماء الذي في يديه مجاملة له، فيما كان الزميلان نهلة القدسي وسامي
القباطي كانوا ينظرون إلي بتأثر بالغ ، بانتظار إلى أين سيقودني ـ فضولي
الصحفي.
حاولت الاعتذار لهؤلاء المنكوبون، قلت لهم مسليا ونحن أيضا نشرب من مياه غير مضمونة وغير صحية في مدينة الحديدة ممزوجة
بالكلور وصدأ المواسير كذلك .. لم أكن أعرف أن شربة ماء دلقتها إلى حلقي
حياء من هؤلاء الريفيون البسطاء، أن تسبب لي متاعب صحية أثناء العودة منذ
أسبوعين وقبل الكوليرا بيومين فقط من رحلة قصيرة لمديرية حيس التي تسكن
أمعائي المتعبة حتى اللحظة.
مدينة حيس بسكانها البالغ عددهم 22035 رجلاً و 22897 امرأة وأسرها البالغة 6881 معرضة
لازمة مياه خطيرة في المستقبل القريب إذا لم يتدارك المعنيون الوضع ويضعون
المعالجات اللازمة لمشروع مياه جاء بعد عقود من الانتظار، بينما ينتظر سكان القرى
الريفية الذين لا يعرفون مياه صالحة للشرب، فمن ينقذهم بمشروع مياه أنساني
؟ خاصة وأن من ضمن مسببات الوباء الذي اجتاح قراهم تأتي المياه الملوثة من
الأسباب الرئيسية في انتقال العدوى بين المواطنين، فرغم وجود مشروع المياه في مدينة حيس إلا أن الذين التقيتهم من المواطنين يقولون إن المشروع يشتغل
بصورة متقطعة لسوء التخطيط والإدارة معا وان سكان القرى الريفية ليس لهم
آبار ارتوازية لكنهم يجلبون الماء من آبار ضحلة ومكشوفة وغير صحية ولا
آمنه وخاصة الأسر الفقيرة التي لا تقدر على شراء المياه المعالجة .
تاريخ على قارعة النسيانحيس
حيث" الزنط" المتألق على صدور الحسناوات والزنابق المرصوصة على صدور
الصبايا الصغار والأيادي المضمخة بالياجور والطين المقرمد حيث الأنامل
التي تنسج " الحياسي" العابقة بروائح التاريخ .. تحكي القصة الأولى لجذور
الصناعة في أعماق الفخار اليمني التهامي الأصيل .. يسجل التاريخ : أن حيس
مدينة موغلة في سطوره الثرية، نشأت قبل الإسلام في العهد الحميري وتنسب
إلى "حيس بن يريم ذي رعين بن رتيب بن نعامة بن شرحبيل الحميري" الذي ذاع
صيته ... حيس حيث التاريخ ينام على قارعة النسيان.. لا يذكر الا في مواسم الخرط الوطني والتغني بأمجاد الماضي
الجميل، على حساب تشوهات حاضرنا .. إلى الجنوب تقع حيس من مدينة زبيد على
بعد 35 كيلومترا على الضفة الجنوبية لوادي نخلة، وينسب لها الكثير من
العلماء والأولياء والصالحين ممن كانت لهم كرامات
ومناقب عديدة ومازالت آثارهم موجودة ومحفوظة حتى الآن لدى الكثير من
المثقفين والمهتمين بهذا الجانب، وأهم هؤلاء الولي المشهور بالخامري الشيخ
"عمر بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحضرمي" والشيخ "أحمد ركيز وعلي ابن
الغريب" وغيرهم رجالات العلم والصلاح التي تعج
المدينة بأضرحتهم .. ليرحل في عصرنا عن حيس وعن تهامة واليمن قاطبة المفكر
والأديب "عبد الرحمن طيب بعكر" تاركا تراثا فكريا وأدبيا بانتظار أن تتحول
مخطوطاته ومؤلفاته إلى موسوعة علمية وفكرية وأدبية، واذكر مما قاله لي في
أيامه الأخيرة وعلى هامش
حوار
صحفي "إن الأمور يأبني في هذه البلاد على غير ما يرام .. ينقل المؤرخون أن
حيس ذاع صيتها كمدينة مولع أهلها بالصناعات الفخارية الملونة والمتنوعة
والتي أصبحت على امتداد التاريخ جزء من الأثاث المنزلي للمواطن التهامي
خصوصا واليمني على وجه العموم، فمن ينسى الصحون، القدور، والجرار، والمطايب والأكواز، المصنوعة من المدر والحجر والجص وقد تفوقت بهذه الصناعات على مُدن وقرى اليمن، حتى عرفت آنية الشرب الفخارية (الحيسي) نسبة إليها.. فحيس مدينة يبلغ عدد سكانها 44932
نسمة ومنازلها 7427 منزلاً، وتبقى منازلها البيضاء المتواضعة ذات الطابع
الحميري قديماً والتهامي حديثاً تبعث فيك شعورا باذخا عن ألق تجسد في هذا
الحضور المعماري الوارف بالجمال .. لكن ثمة تاريخ لحيس يرقد على قارعة
النسيان، لن يستيقظ إلا بعد أن تستيقظ الضمائر المصلوبة على جذوع
اللامبالاة والإهمال في الوزارات المعنية.
زفاف الى القبر !!للموت
هنا رائحة الكوليرا تقصف أزهار "الزنط " في قلوب الفتيات وتنقل أعراسهن
وأفراحهن إلى القبر .. للمرضى أنين الكوليرا .. مندوب الينسيف يصل إلى
المنطقة ليحدق على الكارثة، ليزورهم بعدها الدكتور" ماجد الجنيد" الوكيل
المساعد لوزارة الصحة والسكان ويأخذ عينات للتأكد من حالات الإصابة في
قرية " ضمي " القرية الأولى التي روعها الوباء وأصاب العديد من أبنائها ..
في الوقت الذي لم يعلن رسميا حتى الآن عن هوية هذا الوباء، كل الجهات
تحاول ابتلاع الحقيقة عن الأسباب والمسببات وكل ما يقال إنها حمى صيفية
وحين يتسرب أن العينات كشفت بأنها الكوليرا، يهمهم من تتصل بهم ربما ؟ في
الوقت التي ترصد المليارات لوباء يشتبه أنه طال ست حالات في اليمن أسمه
انفلونزا الخنازير، بينما يموت أبناء المديرية بوباء الكوليرا ويصاب
المئات مخلفا ذعرا بين المواطنين .. يبدوا الأمر عادي بالنسبة لموت هؤلاء
وأوجاعهم.. ولا تحرك الجهات المعنية ساكنا عدا بعض الزيارات وتقديم بعض من
الإسعافات عبارة عن سوائل وريدية في المقابل تبذل هذه الجهات جهودا لنفي
عما إذا كان هذا الوباء هو الكوليرا..عروستان مطرزتان بأزهار الزنط الحيسي
كانتا على وشك الزفاف وإذا بالكوليرا تلبسهم مناديل بهيئة أكفان ملوَّنة
بالدموع ؟ ابنتا إبراهيم سالم قاسم، وعلى محمد المجهصي، اللتان كانتا على
موعد للاحتفال بزفافهما الشهر القادم، لكن كأن القدر كان يعد لأفراحهما امتحاناً آخر.. لم تصمد كهولة الآباء أمام
مجرى الموت توفيتا بعد فترة وجيزة من مكابدة الكوليرا، التي نزلت بارداً
على مرمى العيون اللامبالية لمسئولي وطنٍ لهم القدرة على مسخ البشر إلى
عصافير مذعورة، لنبقى ـ نحن اليمنيون ـ في ورطتنا
الأبدية، مسلمين رقابنا وحياتنا وحتى مستقبلنا لمسؤلين أدمنوا التلذذ
بصراخنا ليقتاتوا انتشاء, على تلك العلاقة الملتبسة التي تجمعنا بهم عنوة .تابع