الوحدة في التاريخ اليمني القديم بداية ليست الوحدة اليمنية توحيدا لبلدين أو قطرين،
بل هي إعادة توحيد والتئام للكيان الواحد.. وهذا ما جعل أدبيات العمل
السياسي اليمني المعاصرة تزخر بعبارة "العمل على إعادة تحقيق وحدة الكيان
اليمني أرضا وإنسانا" . فالوحدة اليمنية هي الأصل في وحدة الأرض والإنسان
بخصائصها، وخصوصيتها الديموغرافية، والجغرافية والتاريخية الواحدة.
فمسمى الأرض عبر الزمن هو اليمن، والأصل الذي تحدر منه أبناء اليمن منذ
آلاف السنين هو أصل واحد، ويذكر ابن خلدون في كتابه العبر أنه ليس بين
الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم(1) واللغة التي ينطق اليمنيون بها
لغة واحدة، شكلت أصل لغة العرب.. وقد جاء في "لسان العرب" لابن منظور
قوله: "أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، وهو أبو اليمن
كلهم، وهم العرب العاربة"(10) والقلم الذي يكتبون فيه لغتهم في العصور
القديمة كان قلم المسند . وتظهر الآثار في مختلف مناطق اليمن في كثير من
الكتابات والنقوش تشابها وتجانسا بين أسماء الأوائل وفي السكنى، ومحال
الإقامة، مما يدل بالقطع على وحدة الأرض والشعب .
وعبر مختلف العصور ظلت قبائل اليمن محتفظة بأنسابها، وأصولها، وفروعها ..
وهي في مجموعها تشكل نسيجا اجتماعية واحدا متجانسا في العادات والتقاليد
والقيم والأهداف، والهموم والطموحات والتطلعات.
لقد ظلت الوحدة هي القاعدة في تاريخ اليمن الطويل، وشهد التاريخ اليمني في
إطار الوحدة إنجازات حضارية وأعمالا إبداعية. ولم تكن التجزئة، وقيام
الدول والإمارات المتعددة في فترة واحدة إلا تعبيرا عن وضع استثنائي
استبدت به نزعات التسديد والاستئثار بالسلطة، وربما كان للعوائق الطبيعية
إسهام في الحد من نفوذ الدولة المركزية على أنحاء البلاد، أرضا وشعبا، قوة
ضاغطة في اتجاه التوحيد السياسي، لتعود البلاد إلى وحدة واحدة تبرز فيها
دولة جديدة على أنقاض وضعف سابقتها فتعيد لليمن وحدته، وغالبا ما كان
يرتبط بالوحدة وجود نظام سياسي شوروي يعطي الشعب حق المشاركة الفعلية في
صناعة القرار من خلال قيام اتحادات مجالس القبائل، والمجالس الاستشارية،
المسود .
نقرأ ذلك في حضارات دول معين وسبأ وحضرموت وقاتبان وحمير وأوسان.. التي
اقترن نبوغها الحضاري بقيام نظم سياسية تأسست على الوحدة، والشورى
(والديموقراطية) والعدالة الاجتماعية. فضلا عما لعبته من دور تاريخي في
نشوء فكرة السدود وتطوير أنظمة الري، وكان الملك سبأ بن يشجب أول من وحد
اليمن الطبيعية، وبعد توحيدها قام بغزو أرض الرافدين، واستخلف بها قوما من
أتباعه، وولى عليها ابنه بابليون الذي بنى بها مدينة حملت اسمه
بابليون(3).
وبالقدر الذي سجل فيه التاريخ إنجازات القادة اليمنيين في إطار الوحدة،
فإنه يحدثنا عن أولئك الذين تنكبوا طريق الوحدة، واحتكروا السلطة، وصادروا
الحريات، وانتهوا إلى أسوأ العواقب بأنفسهم، وبالوطن.
ومثال ذلك الملك ذو نواس يوسف إسار الذي باءت محاولته في إعادة توحيد
اليمن بالفشل، حين أخطأ طريقه إلى وحدة الشعب، ومضى يتعقب من أمن بدين
النصرانية الجديد، وضاق بهم ذرعا-وهو الذي يقال أنه تهود- وانشغل عن تحقيق
الوحدة بمحاربة مخالفيه في الرأي والمعتقد، وأقدم على حركة اضطهاد واسعة،
ومارس الإرهاب في أبشع صوره، حتى لقد أوصله غياب الحكمة إلى إيقاد المحرقة
الجماعية في أخدود نجران لمخالفيه النصارى، مما أدى إلى تفكك الجبهة
الداخلية، وإضعافها، وأغرى الأعداء المتربصين بغزو اليمن متخذين من تلك
المحرقة ذريعة لغزوهم، حيث تمكن الجيش الحبشي المدعوم بقوات بحرية من قيصر
الروم من احتلال اليمن، ولم يدحر منها إلا حين قيض الله لها الملك القائد
سيف بن ذي يزن الذي اضطر إلى الاستعانة بجيش الفرس .